أبحاث ودراسات

“النظام الجديد” ومعركة النقاط.. الشمال تحت مظلة حزب الله

في إطار “معركة النقاط”، يبدو أن تكتيك حزب الله العسكري بالتركيز ثم التصعيد على الشمال يؤتي ثماره.

    من حجم ومعدّل وتدرّج العمليات من جنوب لبنان، منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول، يمكن القول إن الهدف العام للإسناد تقويض البيئة الاستراتيجية لـ”إسرائيل”، شاملاً تجميد الفعالية المدنية والاقتصادية لقطاع الشمال بالكامل، من خط الحدود إلى حيفا، ومينائها الهام، وإطلاق موجة نزوح وهجرة عكسية للمستوطنين. مع تجميد الفعالية العسكرية عند عتبة التموضع في النقاط والقواعد المعلومة للمقاومة، الموضوعة تحت استهداف مستمر، أي تحجيم القدرة على حشد قوات برية بشكل آمن. وعلى ما سبق، تحوّل قطاع الشمال حدّ ذاته إلى منطقة عازلة، وليس جنوب لبنان مثل عام 2006.

    كان المنطق وراء الإسناد المتدرّج تحقيق توازن، بين تجنيب الجبهة الداخلية اللبنانية تداعيات المواجهة إجمالاً، ومساعدة غزة بإضعاف “جيش” الاحتلال وتحجيم قدراته ضدها، والإسهام في تفكيك الداخل الإسرائيلي، عبْر تحقيق عنوان التقويض سابق الذكر. على أن تحولات أظهرتها معركة طوفان الأقصى غيّرت المشهد، ويمكن إجمالها في “استعداد” إسرائيلي: أولاً لتحمل الخسائر البشرية والاضطراب الاجتماعي، دون انقسام سياسي معتبر ينتج أزمة حكم، وثانياً لمعركة مع الحزب داخل لبنان، أُعدّ لها طويلاً بالاعتماد على قاعدة معلومات أتاحها التفوق التكنولوجي، وقدرات استخبارية، فضلاً عن تفوق جوي يمثّل أداتها الأساسية. 

    أهداف وأفق خطة “نظام جديد” 

    مع إعلان خطته التي أسمتها قيادته السياسية “نظام جديد”، نهاية الشهر الماضي، عمل “جيش” الاحتلال منذ 17 سبتمبر على تحقيق هدف متطابق: تقويض البيئة الاستراتيجية للحزب، ولبنان جزئياً، لكن بوتيرة سريعة ووزن ناري ضخم، يعكسان استفادة من دروس حرب 2006 وتجاوزاً لنموذجها، رغم سمات مشتركة، نحو تحقيق هدف عام هو ترميم ثم تطوير الردع، وتحته جملة أهداف لم يتحقق منها سوى المتعلق بإزاحة المدنيين، والبيئة الاجتماعية للحزب، جغرافياً. وهو المألوف في تاريخ الصراع بصفته وضعاً مؤقتاً.

    وتتلخص

    أهداف خطة الاحتلال بـ:

    –  ضرب التماسك التنظيمي للمقاومة وتسلسلها الإداري، بالاغتيالات، في محاولة لعزل المستوى القاعدي، مدنياً وعسكرياً، عن مركز القرار، وعزل المستوى السياسي عن العسكري.

    –  تحجيم إمكانات المقاومة وقدرتها العملية على استهداف شمال فلسطين المحتلة، وقطع شرايين ووصلات “وحدة الساحات”. بإعادة العمل على هدف قديم – أُفشل تكراراً- هو إبعاد سلاح المقاومة إلى شمال الليطاني، وبتكثيف الضربات مؤخراً على سوريا، لدورها في إمداد الحزب بالتسليح والخبرات، مع إتلاف المعابر بينها ولبنان، وتكثيف مراقبة واستهداف خط الحدود بمشاركة غربية وبريطانية.

    – تكثيف استهداف وتهجير المدنيين من محافظتيّ الجنوب والنبطية (والضاحية الجنوبية لبيروت)، سعياً إلى إخلاء قطاع جنوب الليطاني عسكرياً، وإلى تأليب القاعدة الاجتماعية للحزب عليه، ما يشكّل ضغطاً معنوياً وتنظيمياً على جسمه المدني. بموازاة حملة إعلامية هدفها تحريض بيئته الاجتماعية على الانهزامية، والتشكيك في الحلفاء، والترويج لفكرة انكسار المقاومة ومقدراتها.

    لقطع شرايين وحدة الساحات، ستصاحب الخطة فعالية عملياتية خارج لبنان، نحو إيران، رداً على ضربة الوعد الصادق 2، وربما العراق، من حيث يُقصف الجولان المحتل، ويكمن هاجس إسرائيلي بجهوزية تشكيلات للإسناد البري. على أن محصلة تلك الخطوات ـ الضربات، ومثيلتها في الضفة الغربية، ليست سوى إعادة إنتاج منطق “جز العشب”، المتبّع إسرائيلياً في العقود الأخيرة، بلا أثر “استئصالي” حقيقي يكافىء خطاب نتنياهو الجذري، بأبعاده التوراتية وظهيره الجماهيري اليميني المتطرف، الذي يتناول تأميناً نهائياً للبيئة الاستراتيجية، وتغيير لتوازنات القوى في المنطقة. لكن عملياً تثمر الاستجابة الإسرائيلية لوحدة الساحات، بصفتها إطاراً تنسيقياً، ضرورة أكبر لتحولها إلى برنامج استراتيجي عملي، بممارسة أكثر تكاملية بين أطرافها، لحماية “الساحات” نفسها وإجبار تلك الخطة على الانكماش، بتراكم النقاط ــ الضربات، أي تعميق تقويض البيئة الاستراتيجية لـ”إسرائيل” لا العكس. 

    وبالتوازي مع قصف العراق واليمن للوسط والجنوب، يتواصل قصف حزب الله للشمال بمعدّل مرتفع، مع غياب لأي من مؤشرات التفكك التنظيمي، وانتظام في إدارة النيران وتصعيدها بالتنسيق مع العمل البري، ما يعكس اتصال مركز القرار فيه بالجسم العسكري، وحيوية هذا الجسم نفسه، الذي حقق في حوالي أسبوعين بعد الأول من أكتوبر، وتكامل صواريخه مع الضربة الإيرانية يومها، سيطرة مرنة على خط الحدود، وسيطرة نارية على تموضعات وخطوط جيش الاحتلال الخلفية، وقصفاً يتصاعد بالتدريج، أي عمل يومي يتطلب إدارة ميدانية ولوجستية صارمة، يستحيل أداؤه في حالة فوضى قرار أو انقطاع تنظيمي. 

    واقعٌ يتعارض بالأساس مع فتح جبهات جديدة، صحيح أنها ترتكز أكثر على سلاحي الجو والاستخبارات، لكنها تجلب بنفس الوقت أعباء استراتيجية ــ دفاعية ضخمة، فضلاً عن الاحتياج لمجنّدي الاحتياط وقوة برية كبيرة، لا لضمان توغل بري “ناجح” وحسب، وهو ما لم يزل مستحيلاً وعالي الكلفة رغم تكرار المحاولات، لكن كذلك لتغطية كامل منطقة الجليل دفاعياً، إذ بات تنفيذ المقاومة عمليات برية في الجليل – بشكل أو آخر – وارداً، في إطار معادلة استراتيجية جديدة تتشكل.

    “نقطة” الحزب الأولى: إسقاط الشمال نارياً

    يشهد على تمام عافية المقاومة في لبنان، فضلاً عن بقائها، أن بنيتها التنظيمية تمنع التوغل البري الإسرائيلي بالفعل، وتمد مظلة استهداف صاروخي على كامل الشمال الفلسطيني، وتطول الوسط. ويصعّد بقاء فعاليتها العسكرية، رغم وتيرة الضربات السريعة التي تحمّلتها، أولويات بات ضمانها مستحيلاً على إسرائيل، مثل تأمين القطاع الشمالي وميناء حيفا، وحقول الغاز على المتوسط، ثم قطاع غوش دان (تل أبيب الكبرى وأغلب مساحة الوسط). 

    في إطار معركة النقاط، لا الضربات القاضية، يبدو أن تكتيك الحزب العسكري بالتركيز ثم التصعيد (المطلقَين) حتى الآن على الشمال، القريب والمتوسط من على خط الحدود، يؤتي ثماره: يعني الفشل في تنفيذ توغل بري حقيقي وفي حماية الارتكازات الخلفية للقوات، تدني للفعالية العملياتية يقارب الشلل، يثْبته كذلك العجز عن اكتشاف ارتكازات المقاومة، فضلاً عن ضربها، رغم تكنولوجيا الاستطلاع الفائقة المستخدمة. ومن جهة أخرى تشير دقة الاستهدافات في حيفا ومحيطها، المركزة على أهداف عسكرية حتى الآن، إلى قدرة “مؤجلة” على إعادة الكرّة باختراق القبة الحديدية لكن ضد أهداف نوعية، اقتصادية أو متصلة بقطاع الطاقة والخدمات العامة والبنية التحتية.

    من ناحية “مدنية”، أقام الحزب شريطاً عملياتياً داخل فلسطين المحتلة، يشمل عدداً من المستوطنات والمواقع والقواعد العسكرية واللوجستية ونقاط الاتصال والتحكم والاستطلاع والثكنات. يشرف (أفقياً) على القطاعات الثلاثة لخط الحدود، مستهدفاً مدن الشمال في عمق كل قطاع، وقد فرض الإخلاء الكامل من المستوطنين بلا أفق قريب للعودة.

    القطاع الشرقي ــ إصبع الجليل ويضمّ: “المطلة وكريات شمونة وبيت هيليل وكفار جلعادي ومرجليوت. وفي أقصى عمقه مدينة طبريا”.

    القطاع الأوسط ويضمّ: “يفتاح وراموت نفتالي ومالكية ودوفيف وأفيفيم وسعسع. وفي عمقه القريب مدينة صفد، بين قطاعيّ الجليل والجولان”.

    القطاع الغربي ــ على خط ساحل المتوسط ويضمّ: “شتولا وزرعيت وشلومي وشوميرا وحانيتا وأداميت ومتسوفا. وفي عمقه مدينة نهاريا وعكا الساحليتين، التابعتين إدارياً للواء حيفا”.   

    تصاعَد التركيز الناري وتوسّع أفقياً، وفي مداه نحو عمق فلسطين، وحقق دماراً في الشريط الذي أعلنه “جيش” الاحتلال منطقة عسكرية، بموازاة بدء محاولات التوغل البري. مع استهداف متواصل لنقاط المراقبة والاستطلاع والتجمع لقوات “الجيش”، يشلّ قدرتها على الحركة، فضلاً عن الحشد أو الهجوم وتطويره. ما يعني أن “الرأس” الجغرافي لمنطقة الجليل الأعلى بات خارج السيطرة البرية الإسرائيلية عسكرياً، ولا تثمر السيطرة الأمنية من الجو قدرة على وقف الهجمات متعددة الوسائل: بمضادات الدروع والصواريخ والقذائف قصيرة المدى والمسيرات الانقضاضية. أي أنهى هذا التركيز، استراتيجياً، قدرة “الجيش” على ضبط الحدود، إلى حد استحالة تأمين الاستيطان، محدثاً تغيراً غير مسبوق في تعاقد الاحتلال مع سكانه والمهاجرين إليه.

    جنوب الشريط الضيق يقع باقي “لواء الشمال”، كامل منطقة الجليل الأعلى وإصبع الجليل، وجزء من الجليل الأسفل، تغطيه الصواريخ والمسيرات ذات المدى الأطول، وتجاوزه شاملةً كامل منطقة الجليل، وصولاً إلى حدود لواء حيفا غرباً ومحيط مدينة طبرية شرقاً. مساحة قدرها حوالي 2000 كم2، من حوالي 3000 كم2 هي مساحة لواء الشمال، وتضم مقدرات هامة في الزراعة والصناعة (ومنها الصناعات الحربية)، وكتلة سكانية تجاوز المليون نسمة، نزح ربعهم إلى مناطق منها الوسط، الذي بات بدوره تحت الاستهداف المتقطّع والنوعي. والمحصلة إسقاط كامل منطقة الشمال من الفعالية المدنية، وبالتالي إطلاق تداعيات اجتماعية واقتصادية معتبرة نحو ذات الهدف: تقويض البيئة الاستراتيجية. 

    آخر مراحل التركيز الناري على الشمال وضع حيفا ومحيطها في المهداف، وهي الميناء الأهم والمركز السكاني الكبير، بمجال حضري واسع. تستقبل وفق أحد تقارير مجلة The Marker الإسرائيلية، المختصة بالمال والأعمال، 75% من الواردات، مع اعتمادية عليها في استيراد الأغذية والحبوب والأعلاف، لأسباب متعلقة بالحجم والتجهيزات بالمقارنة مع ميناء أشدود جنوباً، إذ يستغرق تفريغ حمولة 7000 طن – مثلاً – إسبوعين في أشدود مقابل يوم ونصف في حيفا، وينقل التقرير عن وزير الزراعة قوله (آب الماضي) إن “إسرائيل” بلا خطة مدى قريب ولا متوسط للتعامل مع تعطلها بالكامل إن حدث. هاجسٌ ينعكس كذلك في انخفاض التصنيف الإئتماني لـ”إسرائيل”، وقدرتها على تشغيل رأس المال المحلي والتجارة الخارجية وجذب الاستثمارات.    

    تتوّج ضربة “بنيامينا”، أقصى جنوب حيفا، على معسكر للواء النخبة “غولاني”، هذا التركيز الناري، المضاف إلى النجاح المتكرر في فرض الصدمة وإحداث الخسائر في “جيش” الاحتلال، وتمثل التمدد التدريجي لمظلة الاستهداف “الدقيق” من الشمال نحو الوسط. إذ تثبّت معادلة استحالة التأمين واستعادة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في الشمال كله، وتطرح تساؤلاً عن القادم من أهداف قد تتجاوز المجال العسكري إلى المدني.

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *